يتم الفصل في المجتمعات الحديثة ما بين الذاكرة وعلم التاريخ، الذي أصبح هو الذي يحدد ويفسر أحداث الماضي. وينتقد الفيلسوف نيتشه، المؤرخين الذين ينتهجون ذاكرة انتقائية في ٳختيارهم، فقط لما يعتبرونه مفيداً للمجتمع وللإنسان. فقد شهد القرن العشرين اهتماماً ملحوظاً بمسألة الذاكرة. فبحسب أبحاث سيجموند فرويد، فإن (الذاكرة الواعية) لا تمثل أبداً ماضي الإنسان، حيث يمكننا الوصول ٳلى الحقائق فقط عن طريق ٳعادة ترتيب بعض التجارب المكبوتة. ومن ناحية أخرى أدت الأحداث العالمية في القرن العشرين وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية والمحرقة واﻹبادات الجماعية ٳلى اﻹهتمام المتزايد من قبل العلوم الإنسانية والعلوم المقارنة، والمتعددة التخصصات بمسألة الذاكرة الجماعية، وتداعياتها على علم التاريخ والأدب والفن من ناحية، والمؤسسات السياسية والقانونية من ناحية أخرى، مما جعل من مسألة الذاكرة الجماعية أمراً معقداً في أواخر القرن العشرين، مع نهاية الحروب والدكتاتوريات. ليس هناك ذاكرة (أصيلة) ولكن هناك فقط (قصص) مختلفة بين الذاكرة الخاصة، والذاكرة الجماعية. كل هذا جعل للخطاب الرسمي، وللمساحة العامة أهمية خاصة لعدم امكانية فهم الذاكرة كأرشيف، بل مساحة ﻹعادة (البناء السردي) وفق تعبير فرويد.
بحسب رينير شمدت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ساوباولو وفي مقالة له بعنوان (الدستور والذاكرة)، ذكر أن "الدساتير هي تعبير عن رغبة وقدرة الإنسان على تنظيم حياته بشكل عقلاني"، مما يجعلها قادرة على منع حدوث تغيرات حادة في النظام السياسي، وٳبقاء مشاعر المواطنين ضمن ٳطارمعتدل. طرح شمدت ثلاث حالات فيما يخص التاريخ والذاكرة عند كتابة دستور معين. الحالة الأولى هي الموقف السلبي حيال كل ما حدث في الماضي. في هذه الحالة تتم محاولة فصل الدستور تماماً عن كل الأحداث الماضية في البلد، بٳعتبارها غير ذات قيمة لبداية ثورية لعصر جديد، وكما حدث بعد الثورة الفرنسية، وكتابة الدستورعام 1791م. استند الثوار المدافعون عن هذه قطيعة مع الماضي عن العقل والمنطق، بٳعتباره الأساس لنظام سياسي جديد، مع رفض الأفكار التي لاتستند ٳلى أساس علمي.
الحالة الثانية هي تمجيد الماضي بٳعتباره فترة بطولية أدت إلى الحاضر. في هذه الحالة يتم ربط التاريخ الوطني، ووئد كل الفجوات وفق ما يسميه المؤرخ ٳريك هوبزباوم بـ (اختراع التقاليد). هنا يتم ٳختيار أحداث معينة من الماضي تخدم هذا الطرح الجديد، وٳقصاء أحداث أخرى بشكل أحادي الجانب. يمكننا ٳعتبار الدستور التركي مثالاً واضحاً على ذلك، حيث تحولت فيه المفاهيم الرسمية للدولة ٳلى ٳيديولوجية سياسية مرتبطة بتاريخ من الأمجاد ومحو اﻹخفاقات بعيداً عن أي وجهة نظر نقدية. هكذا يتحول الدستور ٳلى "عقد اجتماعي" يتوجب ٳتباعه.
الحالة الثالثة تشهدها عادةً البلدان التي تكتب دساتيرها بعد الحروب، فتتبنى موقفاً نقدياً من التاريخ، ٳحياءاً لذكرى الضحايا. مثال على هذا هو الدستور الألماني. فمسألة ٳنضمام تركيا ٳلى الاتحاد الأوربي، وفقاً للفيلسوف الالماني هاينريش اوجست وينكلر متعلقة بنظرة تركيا النقدية تجاه تاريخها خاصةً بما يتعلق بمذبحة الأرمن، ليمكنها اﻹلتحاق باﻹتحاد الأوروبي. وفقاً لهذا المنطق، أصبح أساس الاتحاد الاوربي غير قائم على المسائل الجغرافية أو السياسية أو الاقتصادية، ولكن على الذاكرة الجماعية، وثقافة الذاكرة النقدية. هذا النوع من الذاكرة النقدية نجده في الدستور الياباني، الذي ينص على رفض زج البلاد في أتون الحروب، نتيجة ﻹجراءات حكومية أتخذت في الماضي.
وهكذا، فإن الذاكرة تُطمَس في الحالة الأولى، أما في الحالة الثانية فتَنصَب على ٳكتساب الشرعية. وفي الحالة الثالثة تسعى ﻹبقاء على مسافة ما مع الآخرين. لذا فإن كيفية التعامل مع مسألة الذاكرة، ضمن دستور البلدان التي تجاوزت الدكتاتورية والشمولية إلى النظام الجمهوري الديموقراطي تحدد، وبحسب شمدت، جودة تلك الديموقراطية. كما هو الحال في العديد من البلدان كالأرجنتين والبرازيل وأفريقيا الجنوبية. في أغلب الأحيان يبدو أن الإنكار القاطع للتاريخ يؤدي بشكل أو بآخر إلى العنف. بالنسبة لشمدت الذاكرة الجيدة هي نتيجة لثقافة تحافظ على الماضي بدون عنف.
وهنا يأتي دور المثقف في المشاركة في صياغة الدستور. وفقاً لشمدت فالذاكرة هي بداية كل نظام ٳنساني، لذا فإن كيفية التعامل معها في الدستور، لا تحدد نوع الديمقراطية في ذلك البلد فقط، بل ٳنها أيضا عامل هام في تركيبة البلد الاجتماعية والثقافية ودوره السياسي. ومن هذا المنطلق تبرز أهمية الذاكرة النقدية ودور المثقف كي لا يصبح الدستور وسيلة للتعظيم والتبجيل، أو للإنغلاق على الذات، بل وسيلة تواصل تعبّر عن كافة أطياف الشعب من جهة، وأن تكون ذات نظرة نقدية من جهة اخرى، فتصبح مساحة لذاكرة الشعب الجماعية، وهويته المتواصلة مع الآخر. دور المثقف هنا هو أن يكون مع الذاكرة النقدية، ﻹيجاد دستور لايتم فيه ٳستغلال الذاكرة لأغراض الهيمنة الداخلية أو الخارجية. ولهذا تقع عليه مسئولية ٳبعاد الدستور عن ٳحتواء الذاكرة التي تسعى لتمجيد الماضي وتقديسه، أو إلى طمسه تماماً، وألا يسمح لولاءه الوطني أواﻹيديولوجي المبني على أفكار محصنة ضد النقد البنّاء بأن تطمس دوره كمثقف، فيقع تحت ما يسميه ادوارد سعيد بـ (خيانة المثقفين).